 
                            نعمات مجدي
أحداث سبتمبر.. الكلمة تتحدى الاعتقــال
ونحن نحتفل بـ«مئوية مجلة روزاليوسف» لا يمكن أن نغفل أصعب فترة مرت على الأمة، فكانت تُطرق الأبواب وتُقتحم المنازل دون إنذار أو تفسير، حتى صباح 5 سبتمبر 1981، حين وقف الرئيس أنور السادات داخل مجلس الشعب ليلقى خطابًا على الأمة، ليقول: «هناك فئة من الشعب تحاول إحداث الفتنة الطائفية، وأن الحكومة حاولت نصح تلك الفئة أكثر من مرة».
دفعت تلك الكلمات بالأزمة إلى مرحلة أصعب، فى ظل سياسة كسبت عداوات الجميع، اختلفوا فى الأيديولوجيات واجتمعوا خلف سور المعتقل، دون مبرر منطقى أو تفسير واضح، سوى أن الرئيس يرى الرافضين لاتفاقية كامب ديفيد «دعاة فتنة»، وأن المعارضة فى الوقت الحالى «تهدد وحدة الوطن»- حسب تعبيره، وعليه استلزم الأمر إعمال المادة 74 من الدستور المصرى، التى تنص على أن «لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسّسات الدولة عن أداء دورها الدستورى؛ أن يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر»، فكان قرار الاعتقالات، التى عرفت بـ«اعتقالات سبتمبر»، وضمت 1536 من رموز المعارضة السياسية فى مصر، إلى جانب عدد من الكتّاب والصحفيين ورجال الدين، بجانب إلغاء إصدار صحف المعارضة، فى مشهد لن ينساه التاريخ بحجة حماية الوحدة الوطنية والأمن القومى.
وفى خضم هذه الأحداث الصعبة، كان لـ «روزاليوسف» دور مهم فى التعبير عن مواقف متعددة تجاه سياسات النظام. وقد أظهر كتّاب المجلة موقفًا نقديًا واضحًا من حملة الاعتقالات؛ حيث عكست مقالاتهم رفضًا صريحًا لتقييد الحريات تحت أى ذريعة.
وأكدوا أن اللجوء إلى القَمع لن يصنع ديمقراطية حقيقية؛ بل سيعمّق من فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع، وشدّدوا على أن الحوار والانفتاح السياسى هو السبيل الوحيد لبناء دولة ديمقراطية مستقرة، بعيدًا عن الحلول الأمنية المؤقتة.
ومن خلال تحليل المقالات المنشورة فى «روزاليوسف» خلال هذه الفترة، يمكن الوقوف على طبيعة الخطاب الصحفى فى مواجهة السلطة، وكيفية استخدام الكتّاب للغة النقد والتلميح والمواقف المبدئية فى التعبير عن رفضهم للواقع السياسى القائم آنذاك..
كتب فتحى غانم فى مقاله «من مفكرتى الخاصة» تحت عنوان «الديمقراطية وأزمة الثقافة المزدوجة» الذى نشر فى 2 نوفمبر 1981 فى العدد 2786 مؤكدًا أن «المشاكل التى نواجهها فى حياتنا المعاصرة تكمن فى أن الذين يفكرون أو يخططون لقضايانا السياسية والثقافية يعانون من حالة ازدواج ثقافى يفرض عليهم التردد بين تراثهم الثقافى الدينى والفكر الحضارى المعاصر الذى يسود فى عالم اليوم.
إننا فى أشد الحاجة إلى مواجهة فكرية ثقافية لأصول ثقافاتنا، ولن نبدأ هذه المواجهة من فراغ، فهناك نقطة بداية فرضها الشعب منذ الثورة العرابية حتى اليوم.. وهى فى مطالبته بالديمقراطية على النسق الأوروبى، أو بمعنى آخر على النسق الحضارى والإنسانى المعترف به فى العالم بأسْره». وتساءل فتحى غانم «الديمقراطية المصرية لماذا؟ ولمن؟» فى مقاله الذى نشر فى 9 نوفمبر 1981 قائلاً «على قوة الرأى العام يتوقف النجاح السياسى دائمًا.. هذا هو ما كان يردده أحمد لطفى السيد فى مطلع القرن العشرين وهو يدعو إلى الديمقراطية المصرية ساعيًا إلى تكوين رأى عام يفهم مضمون الديمقراطية ويعرف الإجابة على أسئلة مثل لماذا الديمقراطية. وماهى وظيفة الديية؟»؟

الديمقراطية ومغذى القرار
ونشر رأى «روزاليوسف» تحت عنوان «الديمقراطية ومغذى القرار»... بتاريخ 20 نوفمبر 1981 فى العدد 2790 «قرار الرئيس حسنى مبارك فى الأسبوع الماضى بالإفراج عن 31 من السياسيين المتحفظ عليهم علامة بارزة فى تاريخ الديمقراطية المصرية المستندة على أساس قوى من سيادة القانون.
فصدور القرار بعد إتمام التحقيقات التى أجراها المدعى العام الاشتراكى تأكيد بأن القانون ليس مجرد سيف؛ ولكنه يوفر الحماية لكل صاحب حق.
والقرار علاوة على ذلك يفتح صفحة جديدة للراغبين فى الانضمام إلى مسيرة العمل الوطنى الشريف، ويتيح لهم أن ينضموا إلى الصف الواحد الذى يلزم المرحلة الراهنة من مراحل كفاحنا الوطنى حرصًا على مستقبل البلاد ورخائها وأمنها..
المفأجأة أن يخرج المعتقلون من السجن إلى قصر الرئاسة.. ويقول لهم الرئيس مبارك: مبروك»..
وواصلت «روزاليوسف» التعبير عن رأيها بشكل واضح وصريح؛ حيث كتب صلاح حافظ مقالاً حمل العنوان «مفاجأة الأسبوع.. ليست مفأجاة» بنفس العدد 2790 بتاريخ 20 نوفمبر 1981 «لم تكن المفأجأة هذا الأسبوع إطلاق سراح السياسيين المعتقلين، فالرئيس مبارك أعلن هذا النبأ منذ اليوم الأول الذى تولى فيه سلطته.. عندما وعد بإطلاق سراح كل برئ منهم؛ إنما كانت المفأجأة أن يخرجوا من السجن إلى قصر الرئاسة، وأن يكون الرئيس نفسه أول من يقول لهم: مبروك!! إن هذا هو ما يُسمَّى فى لغة السياسة «تضميد الجراح»... وما يُسمى فى لغة الوطنية «لَمّ الشمل وتوحيد الصفوف».
وقد مضى وقت طويل ونحن لا نقرأ ولا نسمع ولا نمارس إلا فتح الجراح.. حتى لم يعد فى مصر أحد إلاّ وعلى ثوبه بقعة، وعلى عنقه اتهام معلق، لهذا كان جديدًا على الناس موقف الرئيس مبارك.
كان مفأجاة لهم منطق تضميد الجراح وتوحيد الصفوف، بعد سنوات تبارَى فيها الجميع فى فتح الجراح وتمزيق الصفوف.. وانهال فيها من التراب ما جعل الناس ينسون أن الأصل هو الوحدة لا التمزق، والتعاطف لا الخصام.
ولا يملك أى وطنى مخلص فى مصر إلا أن يحيى هذه المفأجأة التى أعادت إلى السياسة المصرية ذاكرتها، وأحيت القضية الجوهرية التى كافح فى سبيلها جميع رسل الوطنية المصرية من أيام عرابى إلى أيام حسنى مبارك.
قال عرابى منذ مائة سنة، لسنا متاعًا ولن نورَّث بعد اليوم.
وقال مبارك منذ شهر واحد، نحن مواطنون لا رعايا فلا مفأجأة إذن؛ وإنما هو خيط متصل.
ولن يكون مفأجأة إطلاق سراح باقى المحبوسين، ولن يكون مفأجأة أن تفتح الدولة أحضانها للعشرات من أبنائها الكتّاب والصحفيين والمفكرين، إن هذا هو ما سيحدث حتمًا؛ لأنه الاستمرار الطبيعى لخيط الوحدة الوطنية الممتد منذ أيام عرابى.
وقد يضل الخيط أحيانًا طريقه، ويلتف حول نفسه، ويتعقد هنا أو هناك لكنه يظل متصلاً؛ لأن الشعب يواصل نسجه وما ينسجه الشعب يبقى».
وتحت عنوان «سؤال إلى أجهزة الإعلام...مَن صناع الفتنة؟».. نشر صلاح حافظ مقاله «قف».. مستنكرًا ما يحدث قائلاً «يثير الدهشة حقًا موقف أجهزة إعلامنا فى هذه الأيام.. فهى مشغولة جدًا بمستثمرى الفتنة الطائفية فى مصر، ولكنها منصرفة عن ساعتها»!!!
المعارضة في عهد مبارك
وقال د.عبدالعظيم رمضان فى مقاله «المعارضة فى عهد مبارك».. فى 7 ديسمبر 1981 «أعتقد أننا مقبلون على مرحلة أكثر تقدمًا على طريق التطور الاجتماعى والسياسى الذى بدأته مصر فى عصرها الحديث، وهذا ما تنبئ به دلائل كثيرة منذ اعتلاء الرئيس حسنى مبارك، الحكم سواء فى خطبه القصيرة المركزة وتصريحاته الدقيقة التى تابعتها بعناية مع غيرى فى لندن قبل عودتى أو فى إطلاقه لسراح بعض عناصر المعارضة السياسية واجتماعه بها.
وإذا صح هذا الاعتقاد فإن على المعارضة السياسية فى مصر، أن تجهز نفسها لدور يناسب مانحن عليه، فلا يجب أن تكون معارضة من طراز عهد عبدالناصر، ولا يجب أن تكون المعارضة من طراز عهد السادات، إن علينا أن نتعلم من دروس الدورَيْن السابقَيْن، والمعارضة فى كل بلاد العالم المتمدن، هى جزء لا يتجزأ من الحكم، بمعنى أنها تشارك فى الحكم بطريقتها الخاصة، وهى النقد، ولا أقصد بالنقد هنا معناه الدارج هو التخطئة وإنما معناه البناء وهو فحص الإيجابيات والسلبيات والإشادة بالإيجابيات حثا على الإكثار منها، وتوضيح السلبيات تحذيرًا منها.
كانت التجربة الثانية فى عهد الرئيس الراحل السادات، وقناعتى الشخصية من واقع استقرائى للأحداث التاريخية كمؤرخ ومن واقع مشاركتى فى الحياة السياسية -ككاتب سياسى- إن الرئيس الراحل كان مخلصًا فى تجربته الديمقراطية على الرغم مما انتهت إليه، فإذا استطاع أحد أن ينكر شيئًا؛ فلن ينكر إن مصر شهدت مَدًا ديمقراطيًا عارمًا فى الفترة من عام 1975 حتى يناير 1977؛ حيت تكونت المنابر التى تحولت إلى أحزاب، وجرت المناقشات الديمقراطية على أوسع نطاق ثم استمر هذا المَد رغم العراقيل فصدرت جريدة الأهالى فى فبراير 1978.
وتألف حزب الوفد الجديد وكتبت الصحف المصرية فى معارضة النظام والحكومة ما لم تكتبه منذ ربع قرن، ثم ظهر حزب العمل وصدرت جريدته «الشعب» لتحمل لواء المعارضة بعد احتجاب قهرى فُرض على حزب التجمع وحزب الوفد، ولم تكمل كمية المعارضة أو نوعيتها التى حملتها جريدة الشعب عمّا قادته جريدة الأهالى وبذلك تكون المعارضة قد تمتعت فى عهد الرئيس الراحل السادات بما لم تتمتع به منذ قيام ثورة 23 يوليو!
على إن التجربة فشلت بشكل درامى فى سبتمبر 1981 بإلقاء القبض على بعض عناصر المعارضة فما هو السبب فى ذلك؟
فى رأيى إن السبب هو عجز كل من النظام والمعارضة على السواء عن فهم الصيغة المُثلى التى تبنى عليها مثل هذه الحياة الديمقراطية.
والآن بعد إفراج الرئيس حسنى مبارك عن العناصر المعارضة المتحفظ عليها تبدو الحاجة ماسة إلى التوصل إلى صيغة ديمقراطية تتفق مع علاقات الإنتاج فى المجتمع المصرى حتى تتلافى التجربة الجديدة كل أخطاء التجربتين السابقتين، ولست أستطيع أن أزعم إننى قادر على التوصل إلى هذه الصيغة نيابة عن قيادات المعارضة».
حديث المعارضة
وفتحت الكاتبة الكبيرة نجاح عمر ملفًا كاملًا على 10 صفحات تحت عنوان «حديث المعارضة» نشر فى 7 ديسمبر 1981 فى العدد رقم 2791.. «واستطلعت آراء الأحزاب حول الديمقراطية لأنى أومن بالديمقراطية، فأنا أطالب بالاستقرار وعودة الأمن والأمان إلى بيوتنا، فالحوار فى ظل أى ظروف استثنائية أمر صعب. ولأن الجماهير تتطلع لحل مشاكلها؛ فقد أصبح واجبنا ألا نطيل من انتظارها.. فالخوف ابن الإرهاب، وكلاهما يفقدنا الطريق.. نحن أمام ظرف جديد تمتزج فيه الاستمرارية والتجديد فى وقت واحد.. استمرارية لسياسات كانت محل خلاف... وتجديد يبدو لا خلاف عليه.. وملامح ذلك إنه لأول مرة تلتقى المعارضة برئيس الدولة وتدخل معه فى حوار مسموع.
ولأول مرة تتفق جميع الأطراف على حوار، تتبادل الدعوة له.. والموافقة عليه.. تعرض فيه الموافقة رأيها وموقفها ومواقفها.
ولأول مرة أيضًا تتفق المعارضة على الإيجابيات التى كشفت عنها أحاديث وتصريحات وبيانات رئيس الجمهورية.
قال خالد محيى الدين رئيس حزب التجمع: الحوار مع الأحزاب ظاهرة إيجابية وبداية جديدة.. والإفراج عن المتحفظ عليهم شىء إيجابى.
وقال إبراهيم شكرى رئيس حزب العمل أسجل للرئيس حسنى مبارك إنه صرّح عدة تصريحات بالنسبة لقانون الطؤارى منها لا تخوف من إساءة استعمال قانون الطوارئ وإنه سيستعمله فى أضيق نطاق، وإن التحفظ لن يكون عقوبة وإنه لن يستخدم قانون الطوارئ فى أغراض سياسية.
ولحزب الأحرار موقف خاص؛ فهو وإن كان قد حصل على لقب زعيم المعارضة إلا أنه أعلن ائتلافه مع حزب الحكومة بعد ذلك وانخفض عدد نوابه فى مجلس الشعب من 46 عضوًا إلى نائبين منتخبين فى مجلس الشعب و5 أعضاء معينين فى مجلس الشورى.
لذلك قال السيد محمد عبدالشافى وكيل حزب الأحرار إن حزب الأحرار نظرًا لظروف معينة بعد انهيار حزب مصر وتكوين الحزب الوطنى استشعر بخطر يحيط بالتجربة الديمقراطية كلها، وكان هذا السبب أن الرئيس الراحل أنور السادات طلب من رئيس حزب الأحرار أن يعمل على تضافر الجهود مع الحزب الوطنى، وهذه الجملة هى طِبْق الأصل مما طلبه الرئيس السادات، وكان معنى هذا أحد الأمرين إما أن نذوب فى الحزب الوطنى ويتلاشى حزب الأحرار أو نقوم بدور شكلى كحزب معارض، وخرجنا من هذا المطب بتحرير كلام الرئيس الراحل إلى الائتلاف، وعرضنا لذلك شروطا لم يقبلها الحزب الوطنى فقمنا بفض الائتلاف بعد ذلك بوقت قصير».
فن الممارسة الديمقراطية
تتضح يومًا بعد يوم ملامح الانفراج والتهيئة لمناخ الممارسة الديمقراطية الأوسع التى تمارس فى إطارها كل الأحزاب سواء حزب الأغلبية أو أحزاب المعارضة نشاطها من أجل هدف واحد محدد هو حل المشاكل التى تواجه مصر الآن، وأيضًا تلك التى ستواجهها بعد إتمام الإنجاز الأعظم للرئيس الراحل أنور السادات، وهو تحرير الأرض المحتلة فى سيناء، وبدأ تطبيق ما وعد به الرئيس حسنى مبارك الشعب من مريديه إلى المؤيدين والمعارضين ليتكاتف الجميع من أجل هذا الهدف القومى. هذا ما قاله بوضوح شديد عبدالستار الطويلة فى مقاله المعارضة و«فن الممارسة الديمقراطية»، الذى نشر فى العدد 2795 بتاريخ 4 يناير 1982، قائلاً «إن الصحف القومية تنشر آراء واجتهادات المعارضين ورؤياهم السياسية حتى جريدة الحزب الوطنى الديمقراطى «مايو» نشرت حديثا مطولا للسيد خالد محيى الدين رئيس حزب التجمع بما تضمنه ذلك الحديث من خلافات محددة مع حزب الأغلبية، ووعد رئيس الجمهورية فى لقائه مع السياسيين الذين أفرج عنهم بأنه سيناقش معهم القضايا المصيرية. كما أعلن د.فؤاد محيى الدين النائب الأول لرئيس الوزراء فتح باب الحوار والاجتهاد أمام الجميع حول القضايا السبع التى كان الرئيس قد دعا إلى مناقشتها على مستوى الأمة جميعًا.

وكل هذا الانفراج يحدث والدولة تواجه أخطر مؤامرة إرهابية على النظام والديمقراطية، كانت تهددنا بانتكاس كل شىء وبأن تفقد مصر إنجازاتها التى حققتها بتضحيات وجهود جبارة على مدى الثلاثين عامًا الماضية فينكمش دورها إن لم يتلاشَ، وبذلك تفتح أبواب المنطقة على مصراعيها من جديد للتنمية والسيطرة الأجنبية.
ولقد كتبنا فى «روزاليوسف» منذ أسابيع نتحدث عن تلك المعادلة الصعبة التى تقع على الحكومة، وهى كيف يمكن مكافحة الإرهاب مع استمرار المسيرة الديمقراطية التى هى الضمان الوحيد لحل مشاكلنا المختلفة؟.
ولأول مرة فى مصر تحدث مكافحة جماعات الإرهاب دون أن يشعر المواطن العادى بأى إجراء استثنائى؛ بل بالعكس إن ملامح الانفراج الديمقراطى تظهر أكثر لمكافحة إلارهاب والإرهابيين؛ إذ يحشد الجماهير سياسيًا ضده ويعزله فى جزيرة محاطة برفض واستنكار تلك الجماهير، ومن هنا فإن حسنى مبارك وضع يده على صمام الأمان عندما نادَى بأن يكافح الإرهاب وجماعاته سياسيًا إلى جانب ملاحقة الأجهزة له، وهذه مسئولية كل الأحزاب والنقابات والهيئات والمثقفين.
وليس الانفراج الديمقراطى وتهيئة المناخ الصحى للممارسة الديمقراطية مسئولية الحكومة وحدها وإنما هى مسئولية جميع الذين يزاولون تلك الممارسة ويستفيدون من ذلك المناخ، وبالتحديد أحزاب المعارضة.. إنه بقدر وعى تلك الأحزاب لمسئوليتها هذه يمكن أن يتعزز الانفراج.
وهذا ما نسميه «فن الممارسة الديمقراطية».. وهذا يستدعى أن يكون صاحبه واعيًا بالظروف الموضوعية التى تمر بها البلاد وكذلك أيضًا واعيًا بظروفه وقدراته الذاتية هو أيضًا، وأخيرًا وليس آخر الأهداف القومية لمصر فى تلك المرحلة لا هى وجهة نظره هو فقط وإلا أصبح انعزاليًا وإنما من وجهة نظر القوى الأخرى وبالتالى مدى التطابق بينه وبينها وأبعاد الخلاف أيضًا، وما زلت عند رأيى الذى أكدته الأحداث فيما بعد إن تجربة الممارسة الديمقراطية التى جرت فى مصر بعد 15 مايو 1971 أكدت أنه فى أحيان كثيرة أخفقت المعارضة فى تفهم «فن الممارسة الديمقراطية» وما نتج عن ذلك من عواقب ومشاكل ليس الآن محل الحديث عنها ولكن لما كان من بديهيات العمل السياسى أن نستفيد من دروس الماضى جنبًا إلى جنب إدراك حقائق الحاضر؛ فإننا نستطيع على ضؤء ذلك أن نحدّد بعض معالم «فن الممارسة الديمقراطية» بالكيفية التى تمليها علينا حقائق الحاضر مستشرقين آفاق المستقبل.

كما إن على المعارضة أن تفرّق جيدًا وهى تمارس نشاطها بين النظام والحكومة، إن النظام هو النظام الوطنى الذى نستظل جميعًا فى رفع أعمدته وحمايته، مَهما اختلفت آراؤنا لأنه النظام الذى يحرر أرضنا، ويبحث عن أفضل السبل لتحقيق تنمية اقتصادية تحقق الرخاء لمصر وتوطيد مكانتها تحت الشمس، وهو النظام الذى يتربص به أعداء كثيرون، أبرزهم ذلك الإرهاب الذى أراد العصف به حكومة ومعارضة.. يمينًا ويسارًا».
الصحفيون وعهد الرئيس
وكتب صلاح حافظ تحت عنوان «الصحفيون.. وعهد الرئيس!!» فى 11 يناير 1982... «لم يفهم الصحفيون لماذا عاد بعضهم هذا الأسبوع إلى عمله الصحفى، وبقى البعض الآخر فى وزارات الزراعة والشئون الاجتماعية والتأمينات!! كان إبعاد الجميع بقرار واحد، فلم لم يعودوا بقرار واحد؟
كان الإبعاد مخالفة صريحة لقانون الصحافة الطازج الذى لم يجف مداده بعد، فإذا كانت العودة من باب التصحيح؛ فليس مفهومًا ألا يعود الجميع.
وإذا كان الأساس التصنيف السياسى للأفراد.. فمجموعة العائدين تنتمى إلى جميع الاتجاهات السياسية فى مصر، والذين لم يعودوا ينتمون إلى نفس هذه الاتجاهات بلا زيادة ولا نقصان.
فلِمَ عاد هؤلاء ولَمْ يَعد أولئك؟ كان الصحفيون فى حاجة إلى تفسير، وكانوا مستعدين أن يقبلوا أى تفسير، إلا الذى تطوّع به مع الأسف رئيس الوزراء الدكتور فؤاد محيى الديب!!!
قال سيادته: بالنسبة للصحفيين، فستتم إضافة العناصر التى لا شك فى ولائها...والتى ستتعاون بإذن الله.
إنه بهذا التصريح قد أعلن- ضمنًا- أن الذين لم يعودوا لا يزال «ولاؤهم» مشكوكا فيه، والولاء المقصود لا يمكن أن يكون الولاء للحكومة، أو للحزب بدليل أن معظم العائدين معارضون معروفون للحكومة والحزب، وإذن فهو الولاء للبلد، أو للمهنة أو لرسالة الصحافة. هذا هو الولاء الذى أثار الغبار حوله تصريح رئيس الوزراء... ربما دون أن يقصد. وكنا نفضّل أن يظل هؤلاء الزملاء مبعدين دون تفسير بدلاً من أن يجىء التفسير مزيدًا من الايلام وجرح الكرامة.
ونحن قد تعبنا من كثرة ما أصاب الصحفيين فى الماضى من غبار واتهامات، وتفاءلنا بأن السياسة الرسمية فى بلادنا أصبح شعارها «فتح صفحة جديدة» ترقأ الجراح، وتغسل الثياب، وتزيل البقع، ولم نتصور أن هذا الشعار يستثنى الصحفيين بالذات، ولا نحب أن نتصور ذلك.
وفى اعتقادى أن تصريح رئيس الوزراء لم يدع غير وسيلة واحدة يمكن بها رد كرامة هؤلاء المبعدين، وهى أن يعودوا فورًا كما عاد زملاؤهم.
إن هؤلاء كهؤلاء لم يواجهوا بأى اتهام، ولم يجر معهم تحقيق وحقهم فى العودة لا جدال فيه، إن لم يكن بحكم الدستور والقانون؛ فبحكم المبدأ الذى أعلنه الرئيس مبارك منذ تولى سلطته، ألا يترك موقعه إنسان دون أن يعرف السبب، ويواجه به، ويتاح له الدفاع عن نفسه.
هذا المبدأ لم يطلب أحد من الرئيس إعلانه، ولكنه هو الذى تطوع به، فصار عهدًا بينه وبين الأمة.. والصحفيون من هذه الأمة ومن حقهم أن يطلبوا معاملتهم بمتقضى العهد».
قانون الصحافة وحريتها
وواصل الكاتب الكبير محمود المراغى نشر تحفظاته حول قانون الصحافة، وكتب فى العدد 2798 بتاريخ 25 يناير 1982 تحت عنوان «لا نريد التعديل ولكن نريد الإلغاء!!!»: «فجأة، أصبحت كثير من الصحف ذات وجهين؛ وجه يطل على الماضى القريب، ويقول ليس فى الإمكان أبدع مما كان.. ووجه آخر يقول بل نريد حرية أكثر، وقوانين أقل، نريد العودة للدستور الذى يكفل حرية الرأى، ونعود للقانون الذى يضمن للصحفى أن يقول كلمته دون أن يُتهَم فى وطنيته ودون أن يفقد وظيفته.
انقسم الرأى، وكانت قضية حرية الصحافة فى مقدمة القضايا المطروحة.
وربما كان الأمر غريبًا بالفعل أن تتناول الأقلام قانونًا لم يجف مداده بعد، وهو «قانون سلطة الصحافة»، ولكن ألا تقول لنا أحداث سبتمبر وأكتوبر شيئًا ينبغى تأمله؟ ألم تكشف لنا الأحداث عن عالم آخر لم تستطع ديمقراطية الصحافة المصرية وقانونها أن تستوعبه أو تتحاور معه أو ترشده أو تتفاعل معه؟
لقد علت صيحة الحرية فى أعقاب نكسة 1967.. وعلت مرة أخرى فى أعقاب أحداث 1981.. حين أصبح السجن والرصاص من أساليب التعامل فى المجتمع، وهذا أمر طبيعى، لذلك وعندما تصدت جريدة «مايو» للقضية مؤكدة أنه لا تعديل فى قانون الصحافة... قلنا: «نحن لا نطلب التعديل.. نحن نطلب الإلغاء»، ونقول كما يقول المَثل: «لقد اتسع الخرق على الراقع».. فلم يعد يجدى أن نحاصر رأيًا، ونقيم سورًا، ونؤمم حديثًا، ثم نطلب السلام الاجتماعى.
القضية: الديمقراطية أساسها، وحرية الصحافة ركن أول وتصور آخر للبناء الصحفى بقطاعيه العام والخاص.. بمزيجه الحزبى وغير الحزبى مثل هذا التصور أصبح مطلوبًا.. وهو تصور لا يصنعه تعديل محدود وإنما سيصنعه على الأرجح قانون جديد مكتمل.
قد يستغرق النقاش شهرًا أو شهرين.. وقد يمتد إلى ما بَعد الانسحاب الإسرائيلى لكنه لا بُدّ أن يتم، لذلك طرّحنا فى العدد الماضى «مبارك وصفحة جديدة فى الصحافة»، ولذلك تفتح «روزاليوسف» النقاشَ بكل جوانبه تحاور الصحفيين والكتّاب ورجال القانون والدستور.
وإذا انتهى النقاش بأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان سنمارس النقد الذاتى ونقول «معذرة.. لقد أخطأنا».
 
 
 
                        

 
                        







